مالك وظريفة


لا تختلف قصة مالك وظريفة في سيرها عن بقية قصص الحب العذري فهي حلقة في سلسلة تلك القصص والغرض منها التأكيد على أن الحب العذري كان سمة أساسية ورئيسة من سمات الحياة العربية طبعتها الطبيعة في نفوس وحياة الناس.
كان مالك شاباً من شباب عذرة المشهورين، حسن الوجه عذب المنطق لطيف المعشر كريم اليد. وكان يعيش بين أهله وعشيرته ناعم البال سعيداً. فخرج يوماً للصيد، ومر في طريقه على عين ماء لبعض العشائر التي هي جزء من قبيلته، فوجد بعض النسوة اجتمعن على تلك العين يغترفن الماء ومن دونهن فتاة قد انفردت عنهن جلست تمشط شعرها، وقد انسدل على وجهها فكأنه بدر يشرق بين ظلام الشعر، وعندما أبصرها أرسل ملاك الحب سهمه إلى قلبه مباشرة، فاحتلت قلبه وأصبح أسير حبها، ولم يكد يحدثها وتحدثه حتى سقط مغشياً عليه، فقامت إليه وراحت ترش الماء على وجهه، فلما أفاق وأبصرها تسكب الماء على وجهه كي يفيق، قال: وهل مقتول يداويه قاتله وأنشد:
خرجت أصيد الوحش صادفت قانصاً
من الريم صادتني سريعاً حبائله
فلما رماني بالنبال مسارعاً
رقاني، وهل ميتٌ يداويه قاتله
فقالت له: كُفيتَ ما تشكو، وحادثته حتى ثابت إليه نفسه، وقد رقّت له، ثم قامت فانطلقت مع النسوة وهي تنظر إليه فأنشد باكياً:
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى
ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وعاد مالك إلى حيه ولكنه عاد على غير ما كان عهده، فلم يعد يخرج إلى الصيد كعادته وأسقمه الحب فلزم فراش المرض، ولما رأت أمه حالته قلقت عليه وأصابها هم كبير فسألته عما أصابه وما هو سبب لزومه البيت وطول السهاد. فلم يجبها بشيء فأقسمت عليه أن يخبرها بحقيقة علته ولكن الخجل عقد لسانه إلا أن أمه لم تصبر على ذلك فألحت عليه بكل الأيمان أن يخبرها بحقيقة الأمر فأنشد متأثراً:
يا علّةً طالت على دنفٍ
يشكو الفراق وقلةَ الصبرِ
ما كنت أعلم أنني كلفٌ
حتى تلفتُ وكنت لا أدري
والبدر يشهد أنني هائم
مُغْرَى بحب شبيهة البدر
ثم قصّ عليها قصة رؤيته للفتاة، فسألت عنها حتى عرفت أنها ظريفة بنت صفوان، فمضت إليها وأخبرتها بما آل إليه حاله، وعرضت عليها أن تزوره فقالت لها: إني لا أستطيع فالناس حولي وأنت تعلمين أنهم جميعاً واشون يحسدونني، فقالت لها: إنما رجوت بزيارتك أن يشفى من مرضه، فأبت أن تجيبها إلى ما أرادت ولكنها عمدت إلى سكين فقصت خصلة من شعرها وقالت لها: أعطه هذه الخصلة لعله إذا أمسك بها زال عنه ما يجده وفارقه سقمه، فرجعت أمه إليه وناولته خصلة الشعر، فأخذ يقبلها، ورجعت إليه نفسه.
وأصبح مالك كلما اشتد به الشوق إلى ظريفة جعل خصلة شعرها التي أرسلتها له مع أمه على وجهه فيستريح بعض الشيء. ولما كان في بعض أيامه وقد خرج ليستنشق الهواء سقطت منه الخصلة فأظلمت الدنيا في عينيه، وعاوده السقم والضنا وأخذ يبكي وينشد:
أكفكف جفن العين والدمع سافح
كشبه غدير فوق خدي جاريا
فيا ليت شعري ذا البكاءُ إلى متى
وحتى متى ذا الحزن والجسم باليا
ولشدة ولعه بها وشوقه إليها راح يلم بدارها لعلّه يراها في إحدى غدواتها أو روحاتها، وأفلح يوماً أن يراها وهي تسير مع بعض النساء من أهلها، وخالسها النظر ولكنهما لم يستطيعا الكلام ورأى دمعة تترقرق في عينيها فأنشد:
جلست لها كيما تمرُّ لعلني
أخالسها التسليم إن لم تسلم
فلما رأتني والوشاةَ تحدرت
مدامعها خوفاً ولم تتكلم
وعاود الإلمام بدارها كثيراً ولكنه لم يرها مرة أخرى، فاضطرب وقلق وعاوده الهم والحزن. ثم فكر بأمر وعمد إلى غلام من الحي فمنّاه الجزاء إن هو أنفذ له ما يريد منه. فسأله الغلام: ماذا يريد فقال له: أريد منك أن تحاذي دار صفوان وتنشد هذه الأبيات:
مريض بأفناء البيوت مطرَّحٌ
أبى ما به من لاعج الشوق يبرحُ
وليس دواء الداء إلا بخيلةً
أضرَّ بنا فيها غرامٌ مبرحُ
إذا ما سألناها وصالاً تُنيله
فصُمُّ الصفا منها بذلك أسمحُ
 وجعل يكرر له الأبيات حتى حفظها، وحاذى الفتى دار صفوان وراح يرفع صوته بتلك الأبيات التي حفظها، فعرفت ظريفة قائلها فأنشدت تجيبه:
رعى الله من هام الفؤاد بحبه
ومَنْ كدتُ من شوقٍ إليه أطير
لئن كثرت بالقلب أتراحُ لوعةٍ
فإن الوشاةَ الحاضرين كثير
وإن لم أزر بالجسم رهبةَ معشرٍ
فبالقلب آتي نحوكم فأزور
ورجع الفتى إلى مالك فأنشده الأبيات التي قالتها ظريفة فسقط مغشياً عليه ساعة، ثم أفاق وهو يردد إهمال عشيرته وأبناء عمومته له قائلاً:
أظن هوى الخود الغريرةِ قاتلي
فيا ليت شعري ما بنو العم صُنَّعُ
أراكم -وللرحمن درُّ صنيعكم-
تركتم دمي هدراً وخاب المُضَيَّعُ
وسلب الهوى من مالك صحته وجعله نحيلاً ضعيفاً لا يكاد يقوى على الوقوف فتوسل إلى بعض أقاربه أن يخطبوا له ظريفة من أبيها، فذهبوا إليه يخطبونها منه. فقال: إني لا أزوجها له بعد أن فضحها بشعره وردهم خائبين, ثم زوجها رغماً عنها لفتى من فتيان العشيرة كان قد تقدم إليها، ولما عرف مالك خبر زواجها أخذ يبكي بكاءً شديداً وكان أهله وعشيرته وبنو عمومته يواسونه ويعزونه فيقول:
دعوني لما بي وانهضوا في رعايةٍ
من الله قد أيقنتُ أن لستُ باقيا
وإذ قد دنا موتي وحانت منيتي
وقد جلبت عيني إليّ الدواهيا
أموت بشوقٍ في فؤاد مبرحٍ
فيا ويح نفسي مَنْ به مثل ما بيا
واشتد به المرض وراح يذوي حتى غدا كالخيال، وفي يومٍ تتابع عليه الإغماء، وكان كلما أفاق من إغمائه ردد:
ليبكني اليومَ أهلُ الود والشفق
لم يبق من مهجتي إلا شفا رمقِ
اليومَ آخرُ عهدي بالحياة فقد
خلصتُ من ربقة الأحزان والقلق
ولم يزل على ذلك الحال حتى شهق شهقة فارق على إثرها الحياة وعلمت ظريفة بموته في حبها، فخرجت حتى انتهت إلى قبره فألقت بنفسها عليه وهي تبكي وتنشد:
اليوم أبكي لصبٍّ شف مهجته
طول السقام وأضنى جسمه الكمدُ
أعِطرُ قبرك أسرى لي النسيمُ به
أم أنت حيث يناط السَّحْرُ والكبدُ
ثم انثنت على صدرها وكبدها، فحركها من معها فوجودها قد ماتت. فدفنت إلى جواره

د عبد الحميد ديوان
.
* * *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دعوتك يامولاي